ملاك عقيل
جَهِد الجيش طوال أيام الأزمة الى تفادي ما حصل في اليوم الثامن والعشرين للانتفاضة الشعبية ليل الثلاثاء تحت جسر خلدة. بالتأكيد، لم يكن خطأ القيادة، بل "فردي" ارتكبه عسكري بشكل غير مقصودٍ، وفق المعطيات، والذي أوقف وأخضع فورًا للتحقيق مع الضابط المعني بعد كفِّ يد الأخير وتوقيفه عن أداء مهامه في اليوم التالي للحادثة.
وبناءً على ما توافر من معطياتٍ كانت السيارة الرباعية الدفع العائدة للعقيد ن.ض في مهمّةِ استطلاعٍ فقط ولم تكن مولجة بفتحِ الطرقِ بعد توافر معلومات عن إقفالها، وقد تعرَّض الضابط كما مرافقه لسيلٍ من الشتائمِ والسبابِ وركل السيارة لمنعها من التقدّم، وبعد نزول الضابطِ من السيارة وحصول هرجٍ ومرجٍ وتدافعٍ، حاول مرافقه إطلاق النار في الهواء لكن يده خانته بسبب ثقل السلاح فأصابت الرصاصة الشهيد علاء أبو فخر الذي يعرف العقيد ومرافقه جيدًا وهو لم يكن من ضمن المجموعة التي كالت الشتائم لهما.
بدت واقعة خلدة، بعكسِ تنظير كثيرين وضع الجيش في خانةِ المتآمر الذي تسيِّره حسابات سياسيّة "مشبوهة" والبسته بلحظةٍ زيّ "الميليشيات"، منفَصِلة تمامًا عن استراتيجيّةٍ ثابتةٍ اعتمَدَتها القيادة العسكرية في التعامل مع الأرضِ منذ انطلاق الحَراكِ الشعبي محاذرة الاصطدامِ الحادِّ مع من تظاهروا أو اقفلوا الطرقات أو افترشوا الارض باستثناءِ حادثة البداوي التي جُرَّ خلالها الجيش الى المحظور، الى أن اتخذَ القرار لاحقًا بإنهاءِ كلّ حالات قطع الطرقات بعد ظهور موجةٍ شعبيّةٍ كبيرةٍ ضدّ هذا الخيار ما كان يمكن أن يقود الى حصول مواجهاتٍ دمويةٍ بين المواطنين.
وهو الأمرُ الذي دفعَ المتظاهرين لاحقًا الى اعتمادِ آليةٍ مختلفةٍ في التعبير، واجِهَتُها الطلاب إضافةً الى تحرّكاتٍ محصورةٍ أمام منازل سياسيين وفي بقعٍ مُحَدَّدةٍ بالنظر الى رمزيّتها في مشروعِ مكافحةِ الفسادِ، فيما كانت تتكاثر الاحاديث عن "مايسترو" يشارك في إدارة هذه التحرّكات لغاياتٍ تستهدف العهد.
ما واجهَ الآلية العسكريّة التي اعترضتها الجموع الغاضبة في خلدة، سبقَ أن تعرَّض له ضباطٌ وعسكرٌ طوال أيّامِ "الثورة" لكن ضبط النفس، رغم الكمِّ الهائل من الضغطِ والتعرّض للاهانات و"تكسير" المعنويات، كان يتغلَّب على ردّاتِ الفعلِ الى أن وقعَ المحظور في خلدة والذي كاد يتكرَّر بنسخةٍ مغايرةٍ مسيحيّة - مسيحيّة في جل الديب بعد ظهورِ السّلاحِ على المكشوفِ والذي حُكِيَ الكثير عن تواجده بين الايادي.
حصل ذلك في الوقتِ الذي كانت فيه أجهزة أمنيّة وعسكريّة لا تزال تناشد أصحاب القرار في السياسةِ ايجادِ مناخاتٍ من التهدئةِ تنعكِس مباشرةً على الشارعِ كي لا تقع حوادث شبيهة تودي بالجميع نحو نفقٍ يُصْعَب الخروج منه.
وفيما أنهت مديرية المخابرات التحقيق مع المعاون اول ش.ح وأحالته الى القضاء العسكري، ويتم الاستماع الى إفادات من كان موجودًا في المحلة بالتزامن مع سحبِ كاميرات المراقبة، فإنّ حادثة خلدة فتحت الباب مجددًا على مصراعيه في شأن دور الجيش في المرحلةِ المقبلةِ التي أقلّ ما يمكن أن يُقال فيها أنّها مصيريّة وخطِرة.
في هذا السّياق، لن يكون تفصيلًا بسيطًا أن يوضعَ الجيش مجددًا في "محورِ الشرِّ" مع قوى سياسيّة تحديدًا تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي المستفيدة من غليان الأرضِ، مع اتهامهِ في الوقتِ نفسه بالتساهلِ في مناطقٍ معيّنةٍ (المسيحيّة بشكلٍ خاصٍّ) واستخدام العنفِ المُفرطِ في مناطقٍ أخرى كما حدثَ ليل الثلاثاء في جسر الكولا، في الوقتِ الذي كانت تُقفَل فيه الطرقات بالتزامن في جل الديب والرينغ وباقي المناطق على مرأى من القوى الأمنيّة.
يحدث هذا الأمر، في ظلِّ لومٍ وَجَّهه أصحاب التجارب "لغيابِ القياداتِ وإختبائها فيُصبِح العسكر والأمن متفرِّجًا على الإشكالات بين المواطنين"، والاشارة الى "أوامرٍ للعسكرِ والأجهزة بالتفرّجِ وعدم التدخل ما يؤدي الى بهدلته وضرب معنويّاته"، كما قال النائب جميل السيّد... هي مؤشراتٌ سمحت للشواذِ أن يصبح أمرًا واقعًا. هكذا نرى "ثوريّون" يرمون الجيش بالحجارة ثم يقتنِصون الفرصة لأخذِ سيلفي مع وليد جنبلاط الذاهب للملمة "جريمة" وقعت بسلاحٍ عسكريٍّ عن طريقِ الخطأ، لكنها ليست سوى نتاجِ أداءٍ متهوِّر وغير مسؤولٍ ومتواطئٍ لقياداتٍ سياسيّةٍ أوصلت الشعب و"جيشه" معًا الى الهاويةِ.
عمليًّا، الجيش المُستنزَف على مدى شهرٍ كاملٍ، وجدَ نفسه فجأة أمام مشهدٍ أكثر دقّةٍ وحساسيّةٍ مما سبقَ، فحُمِّل التنقاضات كلّها دفعة واحدة: هو متدخلٌ لحساباتٍ سياسيّةٍ، ومتفرِّجٌ، ومتواطئٌ، ومتساهلٌ، و"قامعٌ"، وضعيفٌ، و"مستقويٌ"...!
أما في قيادة الجيش، فلا أحد يتجاهل الحمل الثقيل، والمعالجات في ظلِّ فسيفساءٍ طائفيٍّ مذهبيٍّ مناطقيٍّ حزبيٍّ تأتي على القطعةِ، تحت سقفِ قرارٍ تجدَّد بعد انفجارِ الشارعِ ليل الثلاثاء بإتاحةِ التظاهر وعدم فتحِ الطرقات بالقوّة، طالما أنّ "دفعةً" من الحلِّ السياسيِّ لم تظهَر بعد.
هذا الأمر، تجلّى بوضوحٍ في السّاعات الماضية من خلال أسلوبِ التعاطي حتى مع الاعتصامِ أمام القصر الجمهوري، حيث يتواجد هناك فوج المكافحة ولواء الحرس الجمهوري، مع العلم، أنّها التظاهرة الاولى من نوعها بهذا الحجمِ ليس فقط منذ بدءِ الحَراكِ بل في تاريخِ رؤساءِ جمهورية ما بعد الطائف.
نتيجة الحقن الانفجار، هذا طبيعي في بلد غير طبيعي. إنما يصبح للانفجار أوجهًا أكثر خطورة حين يُطلَب من الجيش التصرّف في بقعٍ تخضع كلّ واحدة منها لتوازناتٍ وحساباتٍ متناقضةٍ، وفي الوقتِ الذي يصبح السلاح متاحًا "تداوله" بين المواطنين أكثر من الدولار، وبموازاة كارثة مالية وفشل سياسي ذريع في معالجة أزمة تحتاج الى إعلان حالة طوارئ معلنة وحكمة أكبر.
ويبدو، أنّ القيادة العسكرية المُصرَّة على اتمام تحقيقٍ شفافٍ في ما يتعلَّق بحادثة خلدة، واكبت تحرّكات الارض بسياسةِ امتصاصِ النقمةِ على تداعياتِ حديثِ رئيس الجمهورية وسقوط الشهيد أبو فخر.
كما برزَ دخولهم في المرحلة الاخيرة من إشكال جل الديب الذي استحضَر الصراع "العوني القواتي" لكن هذه المرّة مع سلاحٍ فالتٍ، مع الاصرار في المرحلة الراهنة وأقلّه حتى تشييعِ الشهيد أبو فخر على ضبطِ النفسِ والمؤازرة عن بعدٍ، ما استدرج اتهامات ممجوجة بالحديثِ عن حساباتٍ سياسيّةٍ رئاسيّةٍ تقف خلف أداءِ الجيشِ، ومنها صادر عن التيار الوطني الحرّ.