أجزم أن قوى فاعلة وعاقلة منخرطة في الحراك الشعبي، أُتيح لها الاطّلاع - من جهات غير محلية - على جوانب حسّاسة من العمل الخارجي، لاستخدام الحراك في تصفية الحساب المركزي للغرب مع المقاومة في لبنان. هذا الجزم مردُّه إلى معطيات سمعتها من هؤلاء مباشرة، كما سمعتها من «ناشطين» قالوا إنهم جمعوا معطيات بعد عشرة أيام على انطلاق التظاهرات، وأمكن لهم جمع صورة أولية تُتيح القول إن العمل على خطف الحراك لمصلحة أجندة أخرى، عمل جدي وجارٍ على قدم وساق.
هذا الكلام، مقدمة لحديث آخر يتصل بالنتائج المرجوّة من الحراك، بمعنى من يسعى للاستفادة منه، وهم قوى اليمين التي باتت في قلب السلطة القاهرة، وإن جلست اليوم في مقاعد المعارضة. أبرز هؤلاء وليد جنبلاط وسمير جعجع وعدّتهما الحزبية والمالية والطائفية. هل لاحظ اللبنانيون كيف كان المشهد في تشييع علاء أبو فخر: شاب ناشط في الحراك الشعبي، قُتل برصاص مرافق ضابط يشغل منصباً في مديرية الاستخبارات ويعمل بتوجيهات جنبلاط، وجرى تشييعه كرمز للحراك الشعبي. هذا الحراك الذي رفع شعار «كلن يعني كلن»، فيما «صادف» أن من كانوا يمشون خلف النعش هم نواب جنبلاط وجعجع، كما «صادف» أن من ألقى خطاب التأبين كان تيمور جنبلاط الذي ربما كان يتمرّن على خطاب يمكن أن نسمعه في ساحات الحراك أيضاً... من يشرح كل هذا؟
بعد مرور شهر على الحراك الشعبي، بات بالإمكان الحديث عن مجموعتين كبيرتين:
الأولى: يقودها اليمين المتنفّذ داخل السلطة الحاكمة والقطاع الخاص المستفيد منها، وداخل القطاعات المشاركة في نهب المال العام والسيطرة على القطاع الخاص، بعد تحويله إلى تجارة مضاربة واستهلاك هوائي لا فائدة منه. وهذه مجموعة طائفية حتى العظم، مهما قالت أشعاراً في الوحدة الوطنية. وشعاراتها جليّة كأوشام أبدية على الصدور، لا تُخفيها كثرة الأعلام اللبنانية. وهي مجموعة «يتميّز» أركانها بحقد دفين ضد كل تغيير حقيقي، وضد أي تبديل في الولاءات الاجتماعية. وحتى من هربوا من الأحزاب - لضيق المساحة ربما - ولجأوا إلى منظمات افتراضية منحتهم مقاعد ومنابر، هم في الحقيقة من يمكن أن تُطلق عليهم تسمية «خارج التنظيم»، لكنهم سرعان ما يعودون إلى قلب القطيع متى أُطلق النفير. ومن هؤلاء أيضاً من يُطلق عليهم «الذباب الالكتروني»، ومن يقف خلف الميديا المسؤولة عن جزء من الفوضى في إدارة البرامج السياسية والحوارية، وفي اختيار من يجب أن يظهر على الجمهور، وفي ترتيب الأحداث في نشرات الأخبار، وفي الحضور الدائم في حفلات العلاقات العامّة لأركان السلطة الفعليين في البلاد، من سياسيين وأمنيين واقتصاديين.
أما المجموعة الثانية، وهي أقلّ تماسكاً، فتجمع في صفوفها حشداً غير قليل من القوى اليسارية المنشأ أو ذات الحساسية الاجتماعية العالية. وهي تضمّ ما بقي من الطبقة الوسطى الفعلية (أي المُنتجة في وظائف تنتمي إلى المهن الحرة والخدمة العامة)، لا تلك الطفيلية التي تعتاش على فُتات المنظّمات غير الحكومية، وتحصل على بدلات من دون أي انتاج. كما تضمّ شباناً وصبايا من جيل التسعينات، ممن ذاقوا الأمرّين من الطائفية والمذهبية والارتهان للزعامات المستولية على البلاد. ولهؤلاء جيش من المناصرين الذين لم ينزلوا إلى الشوارع، ويمكن أن تسمع بوضوح صدى أصواتهم في قطاعات المعلمين وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والمحامين، بمن فيهم القواعد الاجتماعية لقوى تقف اليوم في جانب السلطة، خصوصاً حزب الله والتيار الوطني الحر. ولهذه المجموعة خصوصية سلبية ناجمة عن فشل أطرها التنظيمية في استقطاب التائقين إلى حركات علمانية تنشد دولة مدنية. لكن ذلك لا يلغي أن هذه المجموعة تعكس المزاج الصحيح عند قسم غير قليل من الشباب اللبناني.
اليوم، ربما لا تحتاج المجموعة اليمينية الأولى إلى إطار تنسيقي على طريقة العمل الحزبي أو الجبهوي. إذ أنها تملك الميديا من قنوات تلفزيونية ورجال أعمال وإعلام وإعلان، ولديها قدرات مالية هائلة (بعضها مسروق من المال العام أو يأتي من مصادر أجنبية). كما تملك علاقات مع الدولة الطائفية العميقة، وصلات قديمة وعميقة مع المجتمع الدولي. أما المجموعة الثانية، التي تعاني أزمة تنسيق جدي لأسباب كثيرة - غالبيتها تندرج في إطار سوء التفاهم أو غياب الثقة - فتملك فرصة حقيقية لاستثمار ما يجري في الشارع على أكثر من بعد، من التأسيس الفعلي لمعركة تغيير العقد الاجتماعي الذي يتيح تعديلات جوهرية في بنية النظام، إلى التصور الواقعي لسياسات بديلة اقتصادياً ومالياً ونقدياً، إلى جانب امتلاكها تاريخاً وإرثاً كبيراً في الهوية الوطنية لهذا البلد بعيداً عن التركيبة القائمة منذ عقود. وهي مجموعة تنتمي إلى طبقة المنتجين الحقيقيين الباحثين عن دولة قادرة وعادلة ومسؤولة تجاه مواطنيها. المشكلات التي تواجهها هذه الكتلة، من بُنى فكرية أو سياسية أو تنظيمية، لا تمنع العمل معها وفي قلبها لتطوير جبهة قادرة على إدارة الشارع المتضرر من سياسات الطبقة الحاكمة، ولمواجهة السلطة وظلالها في المعارضة المزعومة...
لكن، هل هذا يكفي؟
لا، والواقعية تؤكّد أن هذا الفريق يحتاج إلى بناء جسر مع قوى قادرة على خلق فرص جدّية لبناء لبنان الأفضل. هذا الجسر لا يتعلق فقط بتحالفات سياسية، بل ببناء شراكات قطاعية تؤسس لما هو أبعد من تحالف سياسي. ولكن، على النافذين في هذه المجموعة الإقرار بمجموعة من الوقائع الصلبة، منها أن شعار «كلن يعني كلن» هو مزحة سمجة هدفها التغطية على المسؤول الأساسي عن الانهيار، وأن التوزيع العادل للمسؤولية يتطلب التعامل مع القوى الأخرى بمنطق مختلف، لأن هذه القوى لا تزال تمتلك قوة شعبية كبيرة جداً وحيثية حقيقية وبُنى تنظيمية قوية للغاية. وهي ليست قوى مفتعلة. ولا تتغذى بالأنابيب بل بدماء حقيقية. إذ لا يمكن التعامل مع قوى، مثل حزب الله والتيار الوطني الحر، بالطريقة نفسها التي تتعامل بها مع بقية قوى السلطة. وفي هذا السياق، هناك قدرة عملانية على تحقيق توافقات وطنية واجتماعية واقتصادية تتيح الذهاب نحو تغيير حقيقي. وإذا لم تحصل هذه المراجعة من قبل القوى المشكلة للمجموعة اليسارية، وفي مقدمها الحزب الشيوعي و«مواطنون ومواطنات في دولة» إضافة إلى مجموعات شبابية كثيرة، سيكون من الصعب التقدم خطوة نحو الوجهة المنشودة.
إلا أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الفريق الآخر، وتحديداً حزب الله والتيار الوطني الحر. وإذا كانت تجربة التيار المسيحي الأصل غير ناضجة بعد لدفعها نحو بنية سياسية قابلة للاندماج في مشروع وطني عام، فإن المسؤولية الملقاة على عاتق قيادة التيار وناشطيه (بمن فيهم من هم اليوم في موقع المعارضة لقيادته)، تتطلب شجاعة غير مسبوقة في مغادرة مربع الإنكار، والإقرار بفشل مشروع الشراكة - المحاصصة مع بقية أركان السلطة. فتجربة الأعوام الثلاثة الماضية دلت على أمر خطير للغاية، وهو انحياز قيادة التيار - سواء الموجودة أصلاً، أم تلك التي انتمت إليه فقط، لأنه في السلطة – إلى الدولة التي ماتت ولم يُعلن موعد دفنها بعد. وما رفع شعار «استعادة الحقوق» إلا تعبيرٌ عن فشل رؤيوي خطير، يقود إلى جعل التيار مجرد حزب سلطة لا أكثر ولا أقل. وبالتالي، يفقد عنصر القوة المركزي الخاص باللبنانيين الحالمين بإعادة الاعتبار إلى دولة القانون. وإذا لم يتصرف التيار على أنه أخطأ استراتيجياً برفع هذه الشعارات التي جعلته واحداً من لاعبين طائفيين عاجزين، فسيكون أمام مرحلة ضمور لن تتأخر التدخلات الخارجية في تسريع خطواتها.
أما بالنسبة لحزب الله، فالمسألة تتعلق بنظرته الإجمالية إلى «المسألة اللبنانية» والسؤال المركزي الذي لم يجب عليه الحزب منذ نشأته. وحتى الورقة اللبنانية التي قدمها الحزب قبل سنوات، أو بنود التفاهم مع التيار الوطني الحر، فقد ظلت في إطار تكتيكي لا يتصل بجوهر أزمة النظام. وتقديم الحزب أولوية التحالفات على أولوية الإصلاحات الجوهرية، يجعله متأخراً كثيراً عن حاجات جمهوره ومتطلباته الأساسية، ويجعل دوره الوطني الكبير في حماية البلاد من الاحتلال والهيمنة مهدداً بفقدان عناصر الثقة، في حال لم يجد وسيلة للتعامل مع المسألة الداخلية بطريقة مختلفة.
اليوم، وربطاً بتجربة الشهر الماضي، يمكن التوجه إلى الحزب بطريقة مختلفة. ويمكن سؤاله مباشرة عن كيفية إدارة معركة بالغة الحساسية، في موازاة خروج الناس إلى الشوارع مطالبين بسلطة جديدة. الحزب يعرف نقاط الضعف في جسم الحراك، ويعرف المخاطر، كما يعرف من أين يدخل الخارج الساعي إلى ضربه ونزع سلاحه. وفي الوقت نفسه، يعرف مواقع القوة الصلبة التي تعبّر عن وجع الناس وآلامهم، والحاجة إلى تغيير جوهري في البنية الإجمالية للنظام، وهو لبّ الموضوع.
كيف تصرّف الحزب خلال الأسابيع الماضية؟
أعرف، من اللحظة الأولى، الأسباب الحقيقية والمنطقية والعلمية لحذر الحزب من العناصر الخارجية الساعية إلى النيل منه. وأعرف جيداً، وبالتفصيل، حجم الأعمال التي قام بها عملاء أو انتهازيون أو حاقدون أو أغبياء أو سُذّج في سياق استخدام الحراك لأغراض لا تتعلق بهدفه المفترض في الإصلاح الشامل. كما أعرف أن الحزب يملك من المعطيات ما قد يفاجئ كثيرين عن مداخلات واتصالات واجتماعات وخطوات وتحويلات مالية، ونشاط إعلامي وسياسي وأمني ودبلوماسي، في سياق استغلال الحراك لتحقيق مكاسب هدفها الأول والأخير ضرب المقاومة. وهو كذلك يعرف معلومات كثيرة وتفاصيل حول أدوار رسميين وسياسيين وأمنيين وعسكريين ودبلوماسيين واقتصاديين ومصرفيين وإعلاميين وناشطي المجموعات غير الحكومية. وكل هذه التفاصيل تخصّه، وهو المعني بالحديث عنها من عدمه، وله سياسته، التي تمنعه - حتى اليوم - من كشف كمية هائلة من المعطيات المتصلة بعدوان إسرائيل في عام 2006.